كانت مقلتاه كأنهما كرتان تسبحان في بحر من الدموع وبدا صوته مختنقا، متقطعا، وشفتاه ترتجفان ورأسه يميل تارة نحو الأرض وأخرى نحو السماء، وثالثة نحو الأفق البعيد كأنه يبحث به عن سنوات عمر ضاعت أو هو يحاول جمع ذكريات قديمة، ربت على كتفه وقلت ما بك؟ ولم ينتظر طويلا فقد كان بإنتظار من يسأله، فقال: بالأمس كنت أجلس بجوار أمي التي تجاوزت التسعين كما تعلم، وكانت تحدق في الجدار الفاصل بين غرفة الجلوس والمطبخ حيث لا نوافذ فيه، ثم قاربت بين جفنيها وهي تحدق في لوحتين علقتا على الجدار ثم سألت وهي لا تزال محدقة بهما: لماذا لم ينظف أحد هاتين النافذتين؟ قلت أي نافذتين يا أمي؟ قالت: هذه، قلت إنهما ليستا نافذتين بل هما لوحتان، زادت تحديقا بهما، ثم التفتت إلى وقالت: ربما لا أدري، عندها حدقت بدوري في وجهها الذي زادت تجاعيده، ووجدت نفسي أرتحل وأنا في مكاني إلى الأفق البعيد وإلى أكثر من خمس وخمسين سنة، حين كنا في تلك المدينة الصغيرة، حيث كان يصر أبي على أن لا يشتري لنا الخبز من السوق فكنت أراها قبل أن أنام في الغرفة الكبيرة التي كانت هي نفسها غرفة النوم ومكان دراستنا ومعيشتنا، تحضر إناء نحاسيا كبيرا تضع به الدقيق وتجثو على ركبتيها تخلطه بالماء ثم تعجنه، وقد أنام وهي لا تزال تعجن وأحيانا أستمر في التحديق بها وأعجب كيف يتصبب العرق من جبينها وشتاء تلك الليالي بارد جدا، فمع لحافي المحشو بصوف الغنم لا أشعر بالدفء إلا حين ألصق فخذي بصدري وكأنني جنين أجمع أجزائي إلى بعضها علها تبث الدفء في جسدي النحيل، فإن حالفني الحظ وبقيت حتى تنتهي من المهمة اليومية، أراها وهي تغطي الإناء النحاسي ببطانية صوفية لا تلبث أن ترتفع في الصباح حين يكون العجين قد تخمر وزاد حجمه على عكسي تماما فقد كان حجمي يتقلص مع البرد، وفي الصباح وأنا أجهز نفسي للذهاب للمدرسة كانت تجثو مرة أخرى على ركبتيها كي تقطع ذلك الكم الهائل من العجين إلى قطع شبه متساوية، وما إن نغادر المنزل إلى المدرسة حتى تجلس أمام الفرن كي تحيل تلك القطع الكروية بعد فردها إلى أرغفة يسيل اللعاب لرائحتها وشكلها، وكثيرا ما كانت تنتهي من الخبز حتى تبدأ بالغسيل في إناء مشابه لذلك الإناء النحاسي ولكن هذه المرة لم أرها وحيدة فقد كانت شقيقتي الوسطى تعتلي عنقها وتترك رجليها تتدليان فوق صدرها وهي تغسل، وحين كبرت قليلا إحتلت مكانها شقيقتي الصغرى في حين كنت مسؤولا عن الوسطى أحملها على ظهري وأذهب بها بعيدا عن المنزل حتى تستطيع أمي أن تكمل واجباتها المنزلية، فبعد أن تنتهي من الخبز والغسيل تلتفت للطبخ، لأنها كانت تخشى ثورة غضب أبي الذي لا يمكن أن يغفر لها تأخرها في إعداد طعام الغداء الذي غالبا ما نتناوله قبيل العصر موعد عودته من عمله، وما إن ننتهي من غدائنا حتى تعود مرة أخرى لذلك المطبخ الرث الذي كنت أرى السماء من بعض فتحات سقفه في النهار وهي ذاتها من يدخل المطر منها في فصل الشتاء الذي لطالما كان طويلا وباردا وممطرا، ولن أنسى حين كانت تضعنا واحدا تلو الآخر في إناء آخر حتى تغسل لنا أجسادنا النحيلة في عتبة الغرفة الكبيرة نفسها خوفا علينا من البرد، لقد ذهبت بعيدا عنها في إستدعاء ذكريات لن تنسى وها هي بجانبي بطلة كل هذه الأحداث التي إستمرت سنين طويلة ظهرها إنحنى وجلدها تكرمش ونظرها ضعف وسمعها بات ثقيلا وفقدت كثيرا مما كانت تعرفه، بل لقد صارت تنسى أسماءنا أحيانا، إنها هنا بجانبي كأنها كراس ذكريات عطرة خارت قواها، دمعت عيني وأنا أستعرض حياتها كيف كانت وما آلت إليه، نظرت إليها وكأني أرى نفسي بعد سنين ضعيفا هرما فاقدا للكثير من الذاكرة والقوة، وسألت نفسي: هل سأجد بجانبي ابنا أو ابنة تربت على كتفي وترحمني، لم يوقظني من سرحاني إلا دمعة حارة مشت على خدي كأنها ساقية تغسل وجنتين لطالما قبلتهما هذه العجوز، بكيت ورفعت يدي للسماء لعلمي أن فيها رحمانا رحيما دعوته أن يرحمها كما ربتني صغيرا.
بقلم: د.ميسرة طاهر.
المصدر: مركز واعي للإستشارات الإجتماعية.